بعد نصف قرن من التجميد.. البرلمان المصري يقر قانوناً يهدد بتشريد 10 ملايين مواطن

بعد نصف قرن من التجميد.. البرلمان المصري يقر قانوناً يهدد بتشريد 10 ملايين مواطن
قانون تعديل الإيجار القديم في مصر

في مشهدٍ برلمانيٍّ عاصفٍ اتسم بانسحاب نواب المعارضة وصمتٍ ثقيلٍ من الضفة الأخرى، أسدل مجلس النواب المصري الستار اليوم على واحدة من أكثر القوانين جدلاً وإثارةً في تاريخ العلاقة بين المالك والمستأجر، بإقراره النهائي لقانون تعديل الإيجار القديم، وهو القانون الذي طال انتظاره لعقود طويلة، وها هو يخرج إلى النور وقد أثار من ورائه موجة عاتية من الجدل الاجتماعي، والتساؤلات القانونية، والقلق الوجودي لدى ملايين من المصريين الذين وجدوا في الوحدات المؤجرة بنظام "الإيجار القديم" ملاذًا أخيرًا في وطن تعصف به موجات الغلاء وارتفاع الأسعار العقارية.

ربما لا يختلف اثنان على أن القانون القديم، الصادر منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي (القانون رقم 49 لسنة 1977 والقانون رقم 136 لسنة 1981)، قد صار نبتًا شاذًا وسط سوق عقاري متوحش، فالإيجارات التي لا تتجاوز في كثير من الأحيان الخمسين جنيهًا شهريًا لوحدات في قلب القاهرة، تبدو سريالية مقارنةً بعقارات مجاورة تجاوز إيجارها الشهري عدة آلاف من الجنيهات. لكن يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا اليوم: هل كان هذا القانون الجديد هو التوازن المرتجى، أم أنه أزاح الكفة الثقيلة عن عاتق المالك ليسقطها كاملةً فوق رؤوس المستأجرين؟

فترة انتقالية 

القانون الجديد –بحسب ما وافق عليه مجلس النواب برئاسة المستشار الدكتور حنفي جبالي– ينص على فترة انتقالية تمتد إلى سبع سنوات لوحدات السكن، وخمس سنوات لغير السكن للأشخاص الطبيعيين، وبعدها ينتهي العقد ويُلزم المستأجر بالإخلاء، لتدخل العقود الجديدة تحت مظلة القانون المدني الحرّ، حيث يتفق الطرفان كما يشاءان، وخلال هذه الفترة، تُرفع القيمة الإيجارية بنسب تصل إلى عشرين ضعف القيمة الحالية، وبحد أدنى 1000 جنيه في المناطق المتميزة، و400 جنيه للمناطق المتوسطة، و250 جنيهًا في المناطق الاقتصادية، مع زيادة سنوية بنسبة 15%.

ربما تبدو هذه الأرقام مغرية ومُنصفة من زاوية نظر المالك الذي عانى طويلًا من تجميد ملكيته عمليًا، لكن ماذا عن الطرف الآخر؟ ممثلا في الأسر التي تعيش في تلك الوحدات منذ نصف قرن والتي من بينها الأرملة التي ورثت بيتًا مؤجرًا منذ الستينات بقيمة رمزية، وكذلك العامل البسيط الذي يقطن شقة بـ70 جنيهًا.. كيف سيستقبل هؤلاء قفزات الإيجار؟ وما مصيرهم بعد نهاية السنوات السبع؟

بحسب "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء"، فإن عدد الوحدات السكنية الخاضعة لنظام الإيجار القديم يقدر بنحو 2.9 مليون وحدة، منها 1.8 مليون وحدة سكنية تقريبًا، ويقطنها ما يزيد على 10 ملايين مواطن، هؤلاء المواطنون هم في معظمهم من الطبقة المتوسطة الدنيا، وكثير منهم من المتقاعدين، الأرامل، والعائلات ممتدة الجذور التي لا تملك سكنًا بديلًا، وليس لها سبيل إلى التملك في ظل السوق العقاري المتصاعد.

توفير البديل

أمام هذه الخلفية، جاءت مواد القانون مشبعة بلغة قانونية صارمة لا تحمل إلا بعض الرتوش الإنسانية، مثل الإشارة إلى "عدم الإخلاء دون توفير سكن بديل"، وحق الأولوية في التخصيص لوحدات الدولة، لكن واقع التطبيق يبقى مبهَمًا، فهل للدولة فعلًا القدرة على توفير هذه البدائل؟ وما عدد الوحدات المتاحة؟ ومتى سيصدر قرار رئيس مجلس الوزراء بتحديد شروط التخصيص؟ لا توجد إجابة قاطعة حتى اللحظة.

وبينما تبدو هذه الوعود كأنها مظلّة نجاة لمئات الآلاف، إلا أن التجربة البيروقراطية في مصر لطالما أثبتت أن بين القانون وتطبيقه هوّة سحيقة لا يُجسرها إلا من يحمل "الواسطة" أو "النفوذ". أي أن الخوف لا يزال قائمًا، حتى وإن هدّأ القانون من حدة القلق ببعض العبارات المطمئنة.

وفي السياق ذاته، قالت وزارة الإسكان في بيان لها إن الدولة "ملتزمة بعدم الإخلاء دون سكن بديل"، مؤكدة أن الهدف من التعديلات هو “تحقيق توازن في العلاقة بين المالك والمستأجر، في ضوء متغيرات العصر والعدالة الاجتماعية”، لكنها لم توضح آليات التنفيذ أو عدد الوحدات المتاحة أو جدول زمنيّ للتخصيص، ما يفتح الباب واسعًا أمام التشكيك في قدرة الدولة على الوفاء بتلك الالتزامات، لا سيما في ظل أزمات اقتصادية خانقة.

ضغوط اقتصادية

ولعل الجانب الاقتصادي من المسألة يحمل تعقيدًا لا يقل ضراوة. إذ يأتي إقرار هذا القانون في وقت تتعالى فيه صرخات المواطنين من وطأة الغلاء، فقد بلغ معدل التضخم السنوي في مصر في يونيو 2025 وفقًا لآخر تقرير من البنك المركزي المصري نحو 34.8%، في حين ارتفعت أسعار الوحدات السكنية في القاهرة بنسبة تجاوزت 22% على العام الماضي، وفقًا لتقرير “نايت فرانك الشرق الأوسط”، ومع هذه القفزات، أصبح الحلم بالسكن –ولو في الهامش– بعيد المنال لغالبية الشباب والعائلات.

وفي ظل هذه الأوضاع، يبدو الحديث عن تحرير الإيجارات وكأنه إجراء يُضاف إلى سلسلة الضغوط المتزايدة على المواطن محدود الدخل. حيث إن الزيادة السنوية بنسبة 15%، خلال السنوات السبع، ستعني في نهاية الفترة الانتقالية تضاعف الإيجار خمس مرات تقريبًا، قبل أن يُجبر المستأجر على الإخلاء، ما لم يجد مأوى بديلاً.

وهنا تبرز المعضلة الأخلاقية والإنسانية في صلب المسألة: هل يمكن للدولة، في سعيها إلى إعادة التوازن للعلاقة بين المالك والمستأجر، أن ترفع كفة المالك على حساب حياة المواطن البسيط؟ ألا يمكن تحقيق العدالة دون تهجير قسري غير معلن؟ ألا يُعتبر هذا شكلاً مستتراً من الإزاحة الطبقية التي تخدم سوقًا عقارية متوحشة واحتكارية؟

الجدير بالذكر أن اتحاد ملاك مصر، في أول تعليق له عقب إقرار القانون، وصف القرار بأنه "تاريخي"، وقال في تصريحات إعلامية": "استعدنا حقوقًا مغتصبة منذ أكثر من نصف قرن، هذا انتصار للملكية الخاصة واحترام الدستور"، وهو ما يعكس حالة الابتهاج في أوساط المُلّاك، الذين لطالما رأوا أن القانون القديم يمثل تعديًا على جوهر الملكية الخاصة.

أما من الجهة المقابلة فقد انسحب نواب المعارضة من جلسة التصويت، احتجاجًا على ما وصفوه بـ"عدم إدراج التعديلات المقترحة التي تحفظ حق المستأجر"، معتبرين أن القانون يخلو من الحماية الاجتماعية الكافية، وأنه "يمهّد لطرد عشرات الآلاف من منازلهم دون بديل حقيقي"، بحسب بيانهم الرسمي الذي نُشر في اليوم نفسه.

في ثنايا هذه المواجهة البرلمانية، تختبئ مئات القصص الإنسانية التي لا تصل إلى قاعة المجلس. خلف أبواب الشقق المؤجرة منذ خمسين عامًا، حيث توجد جدّات عشن في المكان أكثر مما عشن في أي مكان آخر، هناك مرضى لا يتحملون مشقة الانتقال، وشباب وُلِدوا في بيت الإيجار ولم يعرفوا له بديلاً، هؤلاء ليسوا مجرد أرقام ضمن "2.9 مليون وحدة"، بل هم نسيج حيّ من المجتمع المصري.

وفي حين يحاجج المدافعون عن القانون الجديد بأنه يُنصف المالك الذي حُرم لعقود من عائد استثماري عادل على ممتلكاته، فإن هذا العائد يأتي اليوم من جيوب مستأجرين لم يطرأ تحسّن كبير على دخولهم منذ سنوات، ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء، فإن متوسط دخل الأسرة المصرية لا يزال في حدود 7,000 جنيه شهريًا، وهي قيمة بالكاد تغطي تكاليف المعيشة الأساسية في العاصمة.

لقد تحول السكن في مصر إلى جرحٍ مفتوح، نزف على مدى عقود بين تشريعات قديمة وواقع اقتصادي جديد، ومع إقرار قانون الإيجار القديم بصيغته المعدلة، تدخل البلاد مرحلة حساسة، تُختبر فيها قدرة الدولة على تحقيق التوازن بين الحق في السكن والحق في الملكية، بين الأرقام والوجوه، بين الدستور والواقع.

خطوة نحو عدالة اقتصادية متوازنة

اعتبر أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، الدكتور صلاح الدين فهمي، أن التعديلات التي أقرّها البرلمان على قانون الإيجارات القديمة تمثل تصحيحًا تأخر عقودًا، وإصلاحًا ضروريًا لعلاقة اقتصادية غير متوازنة بين المالك والمستأجر.

وقال فهمي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إن القانون ظل مجمّدًا منذ ستينيات القرن الماضي، متجاهلًا تحولات كبرى في الاقتصاد المصري والعالمي، مما جعل العلاقة الإيجارية محكومة بقواعد "بالية" لا تنتمي إلى منطق السوق الحر.

وأوضح أن جوهر الإصلاح هو العودة إلى منطق العرض والطلب، مؤكدًا أن أسعار الإيجارات القديمة وصلت إلى مستويات هزلية لا توازي حتى ثمن علبة سجائر، ما أدى إلى إحجام الملاك عن تأجير وحداتهم وتجميد الاستثمار العقاري لعقود.

وشبّه الخطوة الحالية بتحرير أسعار الخبز تدريجيًا، معتبرًا أن رفع الدعم غير المباشر عن السكن هو شكل من أشكال العدالة الاجتماعية، شرط أن يتم تدرّج التنفيذ دون صدمة اجتماعية.

ركود عقاري وأزمة سكن طويلة الأمد

أكد فهمي أن بقاء منظومة الإيجارات القديمة تسبّب في شلل سوق الإيجار، حيث فضّل كثير من الملاك غلق شققهم بدلًا من تأجيرها بأسعار مجحف، وقال إن التحفيز على الترميم والبناء والتأجير لا يمكن أن يتم في ظل منظومة تجمد فيها العائد العقاري منذ نصف قرن.

وأضاف أن تحرير الإيجار سينعكس إيجابيًا على الاقتصاد الكلي، نظرًا لأن كل شقة تُبنى أو تُجدّد تحرّك خلفها عشرات الحرف والمهن، ما يعني أن أي تحفيز لهذا القطاع يمثل قوة دافعة للنمو والتشغيل.

وفي رده على الانتقادات، تساءل فهمي عن سبب قبول المواطنين بزيادات الأجور والفواتير دون اعتراض، بينما ترفض بعض الأصوات أي تعديل في الإيجارات، معتبرًا أن العدالة تقتضي التوازن لا التجميد الأبدي.

الخوف من تطبيق القانون دون حماية اجتماعية

في المقابل، حذّرت خبيرة حقوق الإنسان، الدكتورة أسماء رمزي، من أن تطبيق تعديلات قانون الإيجار القديم دون إطار حماية اجتماعية واضح قد يُفضي إلى أزمة تهجير صامتة تطال آلاف الأسر.

وقالت رمزي، في تصريح لـ"جسور بوست"، إن العدالة لا تعني فقط إنصاف المالك، بل تتطلب ضمان عدم دفع المستأجرين إلى الهشاشة أو التشريد، خصوصًا أولئك الذين لا يملكون بدائل سكنية أو دخلًا كافيًا لتحمّل الإيجارات الجديدة.

تحذير من "الإخلاء القسري" والتهميش الحضري

وصفت رمزي خطر الإخلاء القسري بأنه "التحدي الأخلاقي الأكبر"، مشيرة إلى أن آلاف الأسر المقيمة في وحدات إيجار قديم قد تجد نفسها في مواجهة قرار بالإخلاء دون وجود بدائل حقيقية.

وأوضحت أن "السكن البديل" لا يمكن أن يكون حلاً ما لم يتوفّر في مواقع مناسبة، وبخدمات تضمن استمرار العيش الكريم، معتبرة أن تجربة الإسكان الاجتماعي أظهرت خللًا كبيرًا في هذا الجانب، من حيث العزلة الجغرافية وضعف البنية التحتية.

كما انتقدت غياب الشفافية بشأن أعداد الوحدات المتاحة، وآلية التوزيع، والمعايير التي تضمن عدم تحوّل المستأجر الضعيف إلى ضحية إصلاح اقتصادي لا يراعي الواقع المعيشي.

بين إصلاح السوق وإنصاف الفقراء

طرحت رمزي تساؤلًا محوريًا حول اتجاه الدولة: هل تسعى بالفعل إلى تحقيق عدالة سكنية متوازنة؟ أم أنها تُجري تحولًا تدريجيًا باتجاه خصخصة السوق العقاري بالكامل على حساب الفئات الهشة؟

وشددت على أن الحق في السكن مكفول دستوريًا، ويجب أن يظل في صلب أي نقاش تشريعي، مشيرة إلى أن تحرير السوق لا يجب أن يعني التخلي عن مسؤوليات الدولة الاجتماعية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية